فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ}
هذا عطف غرض على غرض قصد به الانتقال إلى تقسيم فرق المتخلّفين عن الجهاد من المنافقين وغيرهم وأنواع معاذيرهم ومراتِبها في القبول.
دعا إليه الإغلاظ في تقريع المتخلّفين عن الجهاد نفاقًا وتخذيلا للمسلمين، ابتداء من قوله: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] ثم قوله: {لو كان عرضًا قريبًا} [التوبة: 42] وكلّ ذلك مقصود به المنافقون.
ولأجل كون هذه الآية غرضًا جديدًا ابتدأت بذكر نزول سورة داعية إلى الإيمان والجهاد.
والمراد بها هذه السورة، أي سورة براءة، وإطلاق اسم السورة عليها في أثنائها قبل إكمالها مجاز متّسع فيه كإطلاق الكتاب على القرآن في أثناء نزوله في نحو قوله: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} [البقرة: 2] وقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} [الأنعام: 92] فهذا الوصف وصف مقدّر شبيه بالحال المقدّرة.
وابتدأ بذكر المتخلّفين من المنافقين بقوله: {استأذنك أولوا الطول منهم}.
والسورة طائفة معينة من آيات القرآن لها مبدأ ونهاية وقد مضى الكلام عليها آنفًا وقبيل هذا.
ولمّا كانت السورةُ ألفاظًا وأقوالًا صحّ بيانها ببعض ما حوته وهو الأمر بالإيمان والجهاد فقوله: {أن آمنوا بالله} تفسير للسورة و{أنْ} فيه تفسيرية كالتي في قوله تعالى حكاية عن عيسى: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117] ويجوز تفسير الشيء ببعضه شبهُ بدل البعض من الكلّ.
وليس المراد لفظ {آمنوا} وما عطف عليه بل ما يراد فهما مثل قوله: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} [التوبة: 38] الآيات وقوله: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} [التوبة: 44].
والطَّوْل: السعة في المال قال تعالى: {ومن لم يستطع منكم طَوْلا أن ينكح المحصنات المؤمنات} [النساء: 25] وقد تقدّم.
والاقتصار على الطّول يدلّ على أنّ أولي الطول مراد بهم من له قدرة على الجهاد بصحة البدن.
فبوجود الطول انتفى عذرهم إذ من لم يكن قادرًا ببدنه لا ينظر إلى كونه ذا طول كما يدلّ عليه قوله بعدُ {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} [التوبة: 91].
والمراد بأولِي الطول أمثال عبد الله بن أبَيّ بن سَلول، ومعتّب بن قشير، والجِدّ بن قيس.
وعطف {وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} على {استئذنك} لما بينهما من المغايرة في الجملة بزيادة في المعطوف لأن الاستئذان مجمل، وقولهم المحكي فيه بيان ما استأذنوا فيه وهو القعود.
وفي نظمه إيذان بتلفيق معذرتهم وأنّ الحقيقة هي رغبتهم في القعود ولذلك حكي قولهم بأنْ ابتُدئ بـ {ذَرْنا} المقتضي الرغبة في تركهم بالمدينة.
وبأن يكونوا تبعًا للقاعدين الذين فيهم العُجَّز والضعفاء والجبناء، لما تؤذن به كلمة {مع} من الإلحاق والتبعية.
وقد تقدّم أن (ذَرْ) أمر من فعل ممات وهو (وَذَرَ) استغنَوا عنه بمرادفه وهو (تَرك) في قوله تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا} في سورة الأنعام (70). اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)}
وهكذا شاء الحق أن يفضح المنافقين، هؤلاء الذين استمرأوا الاستمتاع بنفس حقوق المؤمنين لمجرد إعلانهم الإسلام، بينما تبطن قلوبهم الكفر والكيد للمسلمين. وقول الحق: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} هو خطاب للمنافقين يكشف بطلان إيمانهم؛ ولذلك جاء قول الحق: {أَنْ آمِنُواْ} أي: اجعلوا قلوبكم صادقة مع ألسنتكم، فالله يريد إيمانًا بالقلب واللسان، فيتفق السلوك مع العقيدة. وقول الحق: {وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} أي: انفروا للجهاد مع رسول الله، فهذا هو التعبير العملي عن الإيمان، ولا تفرحوا بتخلفكم عن القتال في سبيل الله؛ لأن الجهاد والقتال في سبيل الله شرف كبير له ثواب عظيم. وامتناع إنسان عن الجهاد هو تنازل عن خير كبير، فالحق سبحانه يعطي جزيل الأجر لمن جاهد جهادًا حقيقيًّا.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ} واستأذن من مادة استفعل، وتأتي للطلب، كأن تقول: استفهم أي: طلب أن يفهم، واستعلم أي: طلب أن يعلم. إذن: فقوله: {استأذنك} أي: طلبوا الإذن، ولأنهم يتظاهرون بالإيمان ويبطنون الكفر، تجدهم ساعة النداء للجهاد لا يقفون مع المؤمنين، وكان من المفروض أن يكونوا بين المجاهدين، وأن يجدوا في ذلك فرصة لإعلان توبتهم؛ ورجوعهم إلى الحق فيكون جهادهم تكفيرًا عما سبقه من نفاق، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل طلبوا الإذن بالقعود.
ومن الذي طلب الإذن؟
إنهم أولو الطَّوْل. و{أولو} معناها أصحاب القوة والقدرة. و{الطَّوْل} هو أن تطول الشيء، أيك تحاول أن تصل إليه، فإذا لم تصل يدك إليه؛ يقال: إن هذا الشيء يدك لم تَطُلْه، أي: لم يكن في متناول يدك.
و{أُوْلُواْ الطول} أي: الذين يملكون مقومات الجهاد من سلامة البدن من الأمراض ووجود القوة، ولا يعانون من ضعف الشيخوخة، وأن يكون الإنسان قد بلغ مبلغ الرجولة وليس صبيًّا صغيرًا؛ لأن الشيخ الكبير ضعيف لا يقدر على الجهاد، وكذلك الصبي الصغير لا يملك جَلَدًا على الحرب. وأيضًا نجد المريض الذي قد يعوقه مرضه عن الحركة.
أما أولو الطول فهم الذين يملكون كل مقومات الحرب، من قوة بدنية وسلاح، والذين لم يبلغوا سن الشيخوخة، ولا هم صبيان صغار ولا مرضى.
إذن: فعندما تنزل آية فيها الجهاد، فالذين يستأذنون ليسوا أصحاب أعذار- لأنهم معفون- لكن الاستئذان يأتي من المنافقين الذي تتوافر فيهم كل شروط القتال، ويستأذنون في القعود وعدم الخروج للقتال. ويقولون ما يخبرنا الحق به: {وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين} والقاعد مقابله القائم. والقيام- كما نعلم- هو مقدمة للحركة. فإذا أراد الإنسان أن يمشي، قام من مكانه أولًا، ثم بدأ المشي والحركة، ومن القيام أخذتْ مادة (القوم) أي: الجماعة القائمة على شئونها، والقوم هم الرجال، أما النساء فلا يدخلن في القوم، مصداقًا لقول الحق:
{يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ...} [الحجرات: 11].
إذن: فالقيام يقابله القعود، والقوم يقابلهم النساء. والقعود هو مقدمة للسكون، فمتى جلس الإنسان فهناك مقدمة لفترة من السكون، وقعود المنافقين وتخلفهم واستئذانهم أن يبقوا مع النساء والعجزة والمرضى والصبية هو حَطٌّ من شأنهم.
ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف...} [التوبة: 87]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله تعالى: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ}:
{إذا} لا تقتضي تكرارًا بوضعها، وإن كان بعضُ الناس فَهِمَ ذلك منها ههنا، وقد تقدَّم ذلك أولَ البقرة وأنشدْت عليه:
إذا وجدْتُ أوارَ الحُبِّ في كَبِدي

وأنَّ هذا إنما يُفْهَمُ من القرائِن لا مِنْ وَضْع {إذا} له.
قوله: {أَنْ آمِنُواْ}:
فيه وجهان، أحدهما: أنها تفسيريةٌ لأنه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه. والثاني: أنها مصدريةٌ على حذف حرف الجر، أي: بأنْ آمنوا. وفي قوله: {اسْتَأْذَنَكَ}؛ التفاتٌ من غَيْبة إلى خطاب، وذلك أنه قد تقدَّم لفظُ {رسوله} فلو جاء على الأصل لقيل: استأذنه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله سبحانه وتعالى: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}.
وقال بعدها: {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون} فيهما سؤالان: قوله في الأولى {وطبع على قلوبهم} ببناء الفعل للمفعول مكتفى به، وفى الثانية {وطبع الله} ببناء الفعل على الأصل؟ والثانى قوله في الأولى {فهم لا يفقهون} وفى الثانية {فهم لا يعلمون}.
والجواب عن الأول: أن مطلع الآية قبلها قوله تعالى: {وإذا أنزلت سورة} على بناء الفعل للمفعول فجاء قوله: {وطبع على قلوبهم} على ذلك ونوسب بختام هذه الآية بداءة ما قبلها وأما الثانية فلم يقع قبلها فعل بنى للمفعول وقد ذكر الفاعل فيها فجرى الكلام على ما يجب فقيل {وطبع الله على قلوبهم}.
والجواب عن الثانى: أن قوله: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله} لما اجتمع ذكر إنزال السورة والاشارة إلى ذكر المراد بها بقوله: {أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله} استدعى ذلك نظر من بلغه هذا المنزل واعتباره وتفهم المقصود به إلى الكمال ليقع الامتثال على وجهه فلما تراموا إلى الخلود إلى الراحة وترك الجهاد الذي تحملت الآية الأمر به ناسب ذلك أن ينفى عنه الفهم والتدبر فقيل: {وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} والتفقه التفكر والاعتبار ولما لم يقع في الآية بعد ذكر تديره وتفهمه لقرب المعنى المراد منه وذلك قوله: {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء} صرف النفى إلى الحاصل على التفهم وهو العلم فقيل: {وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون}. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)}
إذا تَوَجَّه عليهم الأمرُ بالجهاد، واشتدَّ عليهم حكمُ الإلزام، تعلَّلوا إلى السَّعَةِ، وركنوا إلى اختيار الدَّعةَ واحتالوا في موجِبَاتِ التَّخَلُّفِ، أولئك الذين خَصَّهم بخذلانه، وصَرَفَ قلوبهم عن ابتغاء رضوانه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (87):

قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{رضوا بأن يكونوا} أي كونًا كأنه جبلة لهم {مع الخوالف} أي النساء {وطبع} أي وقع الطبع المانع {على قلوبهم} أي حتى رضوا لأنفسهم بالتخلف عن سبب السعادة مع الكون في عداد المخدرات بما هو عار في الدنيا ونار في العقبى.
ولما أبهم فاعل الطبع، نفى دقيق العلم فقال: {فهم} أي بسبب هذا الطبع {لا يفقهون} أي لا فقه لهم يعرفون به ما في الجهاد من العز والسعادة في الدارين، وما في التخلف من الشقاء والعار فلذلك لا يجاهدون، فلا شيء أضر من هذه الأموال والأولاد التي أبعدت عن الممادح وألزمت المذام والقوادح، فقد اكتنفت آية الأموال في أول قصة وآخرها ما يدل على مضمونها. اهـ.

.قال الفخر:

{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف}
ذكرنا الكلام المستقصى في الخالف في قوله: {فاقعدوا مَعَ الخالفين} وههنا فيه وجهان: الأول: قال الفراء: {الخوالف} عبارة عن النساء اللاتي تخلفن في البيت فلا يبرحن، والمعنى: رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء.
الثاني: يجوز أيضًا أن يكون الخوالف جمع خالفة في حال.
والخالفة الذي هو غير نجيب.
قال الفراء: ولم يأت فاعل صيغة جمعه فواعل، إلا حرفان: فارس وفوارس، وهالك وهوالك، والقول الأول أولى، لأن أدل على القلة والذلة.
قال المفسرون: وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف.
ثم قال: {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} وقد عرفت أن الطبع والختم عبارة عندنا عن حصول الداعية القوية للكفر المانعة من حصول الإيمان، وذلك لأن الفعل بدون الداعي لما كان محالًا، فعند حصول الداعية الراسخة القوية للكفر، صار القلب كالمطبوع على الكفر، ثم حصول تلك الداعية إن كان من العبد لزم التسلسل، وإن كان من الله فالمقصود حاصل.
وقال الحسن: الطبع عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان، وعند المعتزلة عبارة عن علامة تحصل في القلب، والاستقصاء فيه مذكور في سورة البقرة في قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} وقوله: {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} أي لا يفهمون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد. اهـ.